حلم يراود معظم الناس أن تتخذ الحكومة قراراً بطبع مليون جنيه لكل مواطن فيصبح فجأة جميع أهل مصر أغنياء. وما الذي يمنع الحكومة أن تتخذ مثل هذا القرار فتُحل جميع المشاكل المالية والاقتصادية في غمضة عين؟
جدول محتوى المقالة
أدعوك عزيزي القارئ لتصحبني داخل أروقة طباعة النقود أو أوراق البنكنوت. لتعرف لماذا لا تستطيع أي حكومة في العالم أن تطبع البنكنوت إلا بضوابط وقوانين معينة؟
وماذا يحدث إذا ما اتخذت الحكومة مثل هذا القرار وضربت عرض الحائط بتلك الضوابط؟
وتاريخياً ما هي دول العالم التي اتخذت قرار طباعة البنكنوت دون ضوابط؟
ويا ترى ماذا كانت النتائج؟
وهل كانت نتيجة طباعة البنكنوت أن أصبح أهل هذه البلاد من الأغنياء؟
وهل بطباعة البنكنوت تم حل جميع المشاكل المالية والاقتصادية أم تفاقمت؟
وما هي مراحل طباعة البنكنوت؟ وما هي شروط طباعته؟
عزيزى القارئ إمتداداً لسلسة مقالاتنا الممتدة عبر منصة تنقيب في مختلف المجالات. وبالاخص الاقتصادية التي تُهم الناس وتؤثر على حياتهم ومعيشتهم أتشرف أن أصحبك لأطوف بك داخل أروقة ودهاليز طباعة البنكنوت. وارجو ان يوقفنا الله عز وجل ويجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم وأرجو أن ينال مقالى هذا إعجابكم. والان هيا بنا
تعريف أوراق البنكنوت
في البداية نُعرف القارئ بمعنى كلمة بنكنوت ومعناها بأختصار هي أوراق خاصة. وليست في متناول أفراد المجتمع طبقاً للقانون العالمى وتتمتع النقود المُصدرة من البنك المركزى بقوة شرائية قانونية.
ويطلق عليها (قوة الإبراء) للتعامل بها في النطاق المحلي أو يتم استبدالها بمقتضى سعر الصرف بالعملات الأجنبية
وقد سيطرت فكرة ان تقوم الحكومة بطباعة أموال أو بنكنوت بأعداد وقيمة تكفى لسداد ديون الحكومة نفسها. وأيضا تكفي لجميع الناس فيساعد بذلك الجميع أن يعيشوا سعداء واغنياء وتحقق أحلامهم وآمالهم
انها فكرة قديمة تراود الجميع منذ الأزل ولكن يجب ان نعرف ان الحكومة لو قامت بهذا العمل دون إخضاعه لضوابط معينة. فإنها تخاطر بدفع إقتصاد الدولة لفم وحش مفترس وأعماق مستنقع لا خروج منه وهو (التضخم المفرط). والذي باستطاعته تدمير الاقتصاد الوطنى بصورة مفزعة لا فكاك منها.
والتضخم المفرط:
هو بمثابة ثقباً أسود يبتلع المدخرات ويمتص قيمة العملة المحلية ويدمر القوة الشرائية للرواتب والدخول. ويجعل حالة عدم الاستقرار والارتباك مسيطرة على الأسواق
وبالتالي هو عامل طارد للاستثمارات المحلية والأجنبية مما يزيد من أعداد العاطلين ويرفع معدلات البطالة. كما أن سيؤثر على قدرة الحكومة ذاتها على بيع السندات للجهات المحلية في حين أن مالكى تلك السندات يعتبرونها أكثر أنواع الاستثمارات أماناً
ففي حالة قيام الحكومة بطباعة أوراق البنكنوت بصورة مفرطة وارتفاع التضخم نتيجة لذلك فتنخفض قيمة تلك السندات بصورة كارثية. مما يدمر الثقة في تلك السندات والتى تعتبر أيسر الطرق للحصول على التمويلات السريعـة للحكومة
راجع مقالة:
الركود والكساد والتضخم
و نشير هنا إلى أن طباعة البنكنوت تُعد أهم وظيفة من وظائف البنوك المركزية في كافة دول العالم وهي عملية تقوم بها تلك البنوك المركزية بصورة قانونية حصـرية
وفق معايير صارمة ومنضبطة ترتبط إرتباطاً وثيقاً بمعدلات النمو الاقتصادي والناتج المحلي الإجمالي وحجم تدفقات النقد الأجنبي. وكذلك السندات والأذون الحكومية بالإضافة إلى استبدال النقود الورقية القديمة والتالفة
كما تخضع عملية طباعة أوراق البنكنوت لتعليمات صندوق النقد الدولى وفقاً لبيانات مؤشرات الأداء التي تقوم البنوك المركزية بإرسالها أسبوعياً له وبالتاكيد توجد حالات تستدعي طباعة نقود جديد
ما هي قواعد إصدار أوراق البنكنوت؟
أولاً/ إستبدال النقود الورقية سواء القديمة أو التالفة: وذلك بهدف الحفاظ على صلاحية العملة المحلية لأداء مهمتها في التداول. وفى حالتنا هذه لا تحدث زيادة في البنكنوت المعروض.
ثانياً/ تلبية الطلب المتزايد على النقود من جانب البنوك والمصارف: بشـرط ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي في الدولة ولمجاراة ارتفاع أسعار السلع وذلك مقابل أرصدة تلك البنوك طرف البنك المركزى. وفى هذه الحالة تزيد المعروض من العملة المحلية.
وفي غير هاتين الحالتين فأن طباعة النقود تكون عملية غير منضبطة تؤدي لعواقب وخيمة على الاقتصاد الوطنى وتتعداه إلى التأثير المباشر السلبي فى حياة الناس ومعيشتهم.
وفى بعض الأحيان تلجأ البنوك المركزية للدول النامية التي تواجه عجز نتيجة التفاوت ما بين المصروفات والإيرادات إلى طباعة البنكنوت بدون غطاء
كما أن عملية طباعة البنكنوت لن تجعل الناس أغنياء لأن قيمة تلك الأموال سوف تنخفض بشدة نتيجة لكثرة المعروض منها. وعدم مقابلة تلك الأموال لثروة حقيقية تملكها الدولة
وكل ما سوف يحدث نتيجة ذلك هو موجة عاتية من غلاء وارتفاع فاحش في الأسعار. وسيحدث ذلك رغم توافر السيولة النقدية فأنها لن تساوى شيئاً ولن تغني ولن تسمن من جوع.
فلو افترضنا مثلاً أن الحكومة قررت إعتباراً من غداً منح كل مواطن 250 ألف جنيه شهرياً. بالطبع هذا القرار سيسعد الناس ويعتقد أغلب المواطنين أن جميع مشاكلهم تم حلها في لمح البصر.
ولكن في الواقع أن التأثير المباشر والسريع لهذا القـرار هو ارتفاع الأسعار بشكل هائل لأن العملة المحلية سيزيد المعروض منها مما يسبب إنخفاض القوة الشرائية لها.
وسنضرب مثالاً عملياً لذلك: فلو أفترضنا مثلاً أن المواطن العادى راتبه 6000 جنيه وتكلفة شراء الطعام اليومى له ولأسرته مبلغ 150 جنيه مثلاً على الأقل. سيصبح المطلوب منه لإطعام أسرته شهرياً مبلغ 4500 جنيه في أقل التقديرات
وقررت الحكومة أنه من الشهر القادم سوف تزيد مرتبة إلى 60 ألف جنيه أي عشـرة أضعاف قيمة راتبه الحالي. فإنه نتيجة لهذا القرار سوف ترتفع تكلفة السلع الغذائية لتصبح تكلفة إعداد الطعام اليومى 1500 يومياً
فهل حدث أي تغيير في مستوى معيشته؟ وهل أصبح ذلك المواطن غنياً؟ أترك لك الإجابة.
في الحقيقة أن الواقع يؤكد أن التغيير الوحيد الذي حدث هو التغيير في الأسعار ولم يحدث تغيير في ثروة المواطن ولا حدثت زيادة حقيقية في إمكاناته المالية.
لأن على مر الأزمان والعصور هناك قاعدة ذهبية أكدتها التجارب العديدة لحكومات كثيرة تقول (أن الثروة لا يتم الحصول عليها عن طريق طباعة البنكنوت).
عزيزى القارئ هنا يجب أن تعلم أن وظيفة النقود ما هي إلا ممثل للثروات الحقيقية للدولة أو للأفراد. وبالتالي فإن أهم ضوابط طباعة البنكنوت هو أن يكون مقياساً حقيقياً لثروة الدولة
بمعنى آخر هو مقياس لما تملكه الدولة من الإحتياطي في صوره المتعددة مثل (الذهب، سلة العملات الأجنبية، السندات بالعملات الأجنبية) أو بمعنى آخر الناتج المحلى الإجمالى للدولة فهو المقياس الحقيقي لثروة الدولة وإمكانياتها
راجع مقالة:
ماهو الناتج المحلي الاجمالي
وبعد كل هذا يتبادر بأذهاننا سؤال يفرض نفسه
هل يوجد نسبة مثالية لطباعة النقود أو البنكنوت تكون آمنة وتجنب الاقتصاد تلك الأضرار؟
عموماً لا توجد أي نسب أو أنماط محددة على وجه الدقة تحكم وتنظم عملية طباعة البنكنوت او النقود نسبة إلى الناتج المحلى الإجمالى
ولكن في الغالب تقوم البنوك المركزية بطباعة نسبة تتراوح ما بين 2% – 3% من القيمة الإجمالية للناتج المحلى وتختلف تلك النسبة من دولة لأخرى فتتجاوز الدول الفقيرة والنامية تلك النسبة بكثير
نموذج تاريخى لدولة أقدمت على طباعة البنكنوت بصورة مفرطة
وهي دولة المجر التي أقدمت على طباعة النقود بصورة مفرطة كحل لأزمتها الاقتصادية الخانقة التي تعرضت لها أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945).
أن الحظ العاثر لدولة المجر جعلها تقع بين شقى رحى أثناء الحرب العالمية الثانية فعلى أرضها وقعت مواجهة كبرى بين روسيا وألمانيا عام 1944 فكان نتيجة تلك المعارك الضارية بين تلك القوى العظمى المتحاربة على أرضها نتائج كارثية
منها تدمير خطوط السكك الحديدية بالكامل وفقدان 90% من قاعدتها الصناعية. وحتى أصول دولة المجر التي نجت بأعجوبة من التدمير جرى سباق محموم بين روسيا وألمانيا على الاستيلاء عليها ونقلها لبلادهم.
ونتيجة لتلك النتائج المروعة على الاقتصاد المجرى وفقدان البنية التحتية بالكامل ونتيجة لتوجه الحكومة المجرية نحو إعادة بناء ما فقدته من قاعدة صناعية وإنتاجية في أسرع وقت
والسيطرة على معدلات البطالة المرتفعة بين مواطنيها قامت بعمل خطط متنوعة لتحقيق تلك الأهداف ولكنها فشلت جميعها. ومما زاد الطين بلة أن روسيا فرضت على المجر تعويضات مالية باهظة أثقلت كاهل المجريين
وهذا أبقى الوضع المالى والإقتصادى في حالة عجز هائل وفى ظل انعدام أي وسيلة لتمويل ذلك العجز قررت الحكومة المجرية التوجه الى الانتحار الاقتصادي وهو طباعة المزيد من النقود لسد هذا العجز.
قامت الحكومة بطباعة كميات هائلة جداً من الأموال وقام بإقراضها لبنوكها بأسعار فائدة مخفضة وبدورها قامت تلك البنوك بإعادة إقراضها للشركات والمواطنين ذلك دفعاً لعجلة العمل.
كما قامت الحكومة بتعيين أعداد هائلة من العمال ومنحت المواطنين قروضاً إستهلاكية بشـروط وفوائد متساهلة وميسرة. بإختصار غرقت المجر في بحر متلاطم من أمواج النقود وذلك بهدف دفع عجلة الاقتصاد المجرى للدوران من جديد.
فماذا كانت النتيجة؟
النتيجة هي غرق الإقتصاد المجرى حرفياً في مستنقع التضخم المفرط وكانت نتائجه السلبية ترمي بشررها في كافة المجالات كما سنوضح لك عزيزي القارئ فيما يلـي :-
- إجمالي النقود المتداولة بالمجر في يوليو من عام 1945 كان ما يقارب من 25 مليار (بنجو)
وهى العملة المحلية للمجر وأصبح المتداول من تلك العملة في يناير من عام 1946
أى بعد ما يقارب ستة شهور 1.646 تريليون.
- في مايو من عام 1946 ارتفع المتداول من العملة الوطنية إلى أرقام فلكية لم تألفها آذاننا وهو 65 مليون مليار (كوادر بليون) ووصل في يوليو من عام 1947 إلى رقم لن تستطيع حتى أن تتخيله وهو 47 تريليون تريليون (سبتليون).
- أرتفع معدل التضخم بصورة مرعبة بمعدل 150000% يومياً.
- توقفت الحكومة عن جمع الضرائب نتيجة التآكل اليومي المستمر لقيمة العملة الوطنية المستخدمة في سداد قيمة تلك الضرائب.
- نتيجة لذلك انخفضت القوة الشرائية للدخول والأجور بنسبة تفوق 80%
- خسـر المودعون بالبنوك و حاملو الأسهم الحكومية كافة أموالهم لأن تلك الأموال أصبحت عديمة القيمة.
وهنا نقف موقف تأمل!
من الذى تحمل عواقب مغامرة حكومة المجر من تضخم كاسح؟
نقول بكل ثقة إستمدناها من تلك التجربة الكارثية، بالتاكيد هم العمال والمواطنين البسطاء من محدودى الدخل هم وحدهم من تحملوا تلك النتائج. فدخولهم وأجورهم تراجعت قيمتها وقوتها الشرائية ودخلوا جميعاً تحت خط الفقر.
أن مغامرة دولة المجر ليست فريدة من نوعها ولا هي إستثنائية بل قامت دول كثير باللجوء إليها تحت وطأة انعدام مصادر التمويل للوفاء بالتزاماتها مثل بوليفيا وزيمبابوي وألمانيا ذاتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
أما عن الدرس المستفاد من كل ما سبق
أن طباعة البنكنوت بصورة غير مدروسة تستدعى مشكلات جديدة أكبر وأعتى بكثير من الحلول التي تقدمها للمشكلات القائمة حالياً. كما آثارها المدمرة تتعدى الأجيال الحالية لأجيال كثيرة قادمة تتحمل أوضاع إقتصادية لا ذنب لهم فيها
أرجو أن أكون وفقت عزيزى القارئ في تعريف أوراق البنكنوت وتقديم محتوى مدعم بالخبرات والتجارب العملية يتمتع بالبساطة في توصيل المعلومات لك.
أرجو أن نتشارك الآراء والمقترحات والتعليقات على موضوع هذا المقال كما يسعدنى دوماً تلقى اقتراحاتك بأى موضوعات تكون محل إهتمامك.